المصدر: صوت لبنان
بين النصر المحظور والتقدم المتاح
استطاع الزعيم النازي أدولف هتلر ان يقنع اغلبية الشعب الالماني بتفوق العرق الآري، وبانه اي الشعب الالماني قادر على السيطرة على اوروبا كاملة، وان يحاول غزو بريطانيا، ثم ان يذهب الى اعماق الشرق يقاتل في روسيا وستالينغراد.
انتهت المغامرة النازية بهزيمة المانيا واحتلالها من قبل الحلفاء؛ أمريكا، بريطانيا، فرنسا، والاتحاد السوفييتي.
كان من نتائج هذه الحرب ان فقدت ألمانيا اكثر من ٨ مليون قتيل عسكري ومدني، وانهار اقتصادها بشكل شامل.
بعد هذه الحرب التي تحولت الى كارثة المانية متعددة الأبعاد، نبذ الشعب الالماني النازية كعقيدة تمثل شعورا بالتفوق العرقي، ونتيجة هذا الانقلاب الثقافي في وجدان الشعب، اقتنع بأن السلاح يمكن ان يتم التخلي عنه، وقرر او رضخ لشرط ان لا يبني جيشا، وان لا يدخل سباق تسلح، وان لا يسعى لإنتاج قنبلة ذرية، رغم انه على المستوى التقني والعلمي كانت ألمانيا على عتبة انتاجها.
الحرب الكونية هذه نفسها، انتجت كارثة اخرى في اليابان قد تكون اشد دمارا وفداحة من الكارثة الالمانية، خاصة بعد ان قامت اميركا بقصف مدينتي هيروشيما وناغاساكي، في اليابان
وأسفر ذلك، عن دمار هائل ومقتل مئات الآلاف من المدنيين، وكانت النتيجة، ان اجبر امبراطور اليابان على النزول من موقع الاله الى مرتبة البشر التي تسمح للشعب بان ينظر الى وجهه ويراه، كما اجبر على توقيع اتفاق استسلام، جعل جزءً من اراضي دولة اليابان قواعد عسكرية اميركية، كما إلتزمت بلاده بعدم بناء جيش قتالي، او إنتاج اسلحة تقليدية، او السعي لحيازة سلاح نووي.
في كلا الدولتين، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تهاوت العقائد الشمولية الألمانية واليابانية، كما تهاوت قداسة الحاكم وسقطت فرادة مواهبه وافكاره، وتم التخلي عن الخيار العسكري بشكل كامل بعيدا عن المشاركة باية حروب خارجية.
بين تبني الإصرار على الخيار العسكري المحظور لصناعة نصرٍ لم يعد ممكنا، نتيجة موازين القوى الدولية في الموارد الاقتصادية والبشرية من جهة اولى، أو السير في خيار آخر متاح، يعتمد الاقتصاد السلمي والتقدم العلمي والاستثمار بمنجزات البحث العلمي والتقني من جهة ثانية، اختارت اليابان والمانيا الخيار السلمي المتاح، ولم يكد يمضي على نهاية هذه الحرب، ثلاثة عقود حتى كانت اليابان والمانيا من عداد عمالقة الاقتصاد العالمي، وحتى اصبحت الصناعات اليابانية والألمانية في مقدمة مواصفات الجودة والتنافسية في مقابل صناعات الدول الغربية الاخرى كافة والتي انتصرت في الحرب العالمية الثانية.
بين خيار الانتصار في الحروب والقتال بالسلاح من جهة او خيار الانتاج بالاقتصاد والتقدم بالتقنية والإلتزام بالجودة، نجحت المانيا واليابان ان تحققا التقدم والإنتاجية بديلا للنصر والحرب، وإستطاعت المانيا ان تستعيد وحدتها، كما استطاعت اليابان ان تستعيد مكانتها الدولية في عالم الكبار.
على مدى مائة عام تقريبا من الصراع العربي الصهيوني على فلسطين، خاض العرب والشعب الفلسطيني حروبا ومواجهات عديدة، واصروا دائما على حقوقهم التاريخية كاملة غير منقوصة، واكتشفوا في مناسبات عديدة ومعارك وحروب مأساوية ان هذه الحقوق التاريخية والكاملة غير المنقوصة، لا تتيح نيلها موازين القوى الدولية، هي حقوق تاريخية ثابتة ومن العدالة والامانة الاخلاقية والقيمية ان يسترجعها العرب والشعب الفلسطيني كاملة غير منقوصة، لكن السياسات الدولية ومصالح صناع القرارات في العالم لا تتيح استرجاع هذه الحقوق وتمتع أصحابها بها.
الحقيقة هذه، بدت ماثلة يوم قرار تقسيم فلسطين الصادر سنة ١٩٤٧، ثم اكتشفها الرئيس الراحل عبد الناصر، في حرب ١٩٦٧ ، واعلن ان المعركة ليست مع اسرائيل فقط، بل هي ايضا مع من هم وراء اسرائيل…
والحقيقة نفسها اكتشفها الرئيس انور السادات في حرب تشرين سنة ١٩٧٣، بعد الانجاز التاريخي للجيش المصري بعبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف، أدرك هذه الحقيقة السادات، بعد اقامة الجسر الجوي الاميركي الى مطار العريش في شبه جزيرة سيناء، والذي زود الجيش الاسرائيلي بالدبابات والاسلحة التي مكنته من هجوم مضاد ادى الى اقامة ثغرة اسرائيلية على الضفة الغربية لقناة السويس…
والحقيقة نفسها ادركها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات اثناء الإجتياح الإسرائيلي سنة ١٩٨٢ للبنان وحصار بيروت، من ان القوات المشتركة اللبنانية الفلسطينية ستقاتل وحيدة في ظل تواطؤ عربي ودولي ورخصة قتل شاملة دامت ٩٠ يوما.
والحقيقة نفسها ادركتها ايران في المعركة الاخيرة في لبنان وغزة، حين إكتفت من طوفان غزة بالتنصل والسلامة، ومن حرب إسنادها بنحر حزب الله رفعا للملامة، وتخلت عن اذرعة دفعتها للمواجهة، من حركة حماس في غزة، الى حزب الله في لبنان، الى نظام الاسدين في سورية.
بين الحرب من اجل النصر او التسوية لنيل المتاح قبل السادات باتفاقيات كمب ديفيد فاستعاد سيناء، وذهب عرفات الى اوسلو فنال سلطة وطنية تمارس حكما ذاتيا، يتعايش مع الاحتلال الإسرائيلي، لكته يدير غزة والضفة الغربية، ونجح في تحقيق عودة ٢٥٠ الف لاجئ فلسطيني الى مناطق الحكم الذاتي قبل مقتل رابين.
وحقق لبنان انجاز التحرير في ٢٥ ايار سنة ٢٠٠٠ يوم قبلت، حكومة الرئيس الحص، خلافا لرأي سورية الاسد، بترسيم الخط الازرق بين لبنان وفلسطين، تطبيقا للقرار الدولي رقم ٤٢٥ ومتجاوزا بذلك او معلقا المطالبة بالانسحاب الى خط الهدنة سنة ١٩٤٩، وبحل مشكلة مزارع شبعا.
في مواجهة خيارات التسوية هذه، تعالت الدعوات لتبني الخيار العسكري من اجل النصر، وللتمسك بالحقوق كاملة لتحقيق العدالة والإنصاف، بعض اصحاب هذه الدعوات كان صادقا امينا للقضية، مستعدا لبذل الغالي والنفيس في يوميات اية مواجهة او قتال، ولعل هذه الفئة الواسعة شكلت مجاميع هائلة العدد في لبنان وفلسطين واليمن ومصر وسورية والعراق وغيرها من دول العرب والمسلمين، لكن البعض الآخر من أصحاب القرار وهذه الدعوات وتحديدا نظامي الاسد والولي الفقيه، لم يكن جادا فيما يقول ولا صادقا فيما يدعو اليه…
إن إصرار أنظمة الممانعة على الدعم العسكري والمادي لتشكيلات المنظمات المقاومة لإسرائيل، وإدامتها لإشعال المواجهات مع العدو، لم يكن يوما من اجل فلسطين، ولا من اجل استرجاع حقوق شعبها التاريخية، بل كانت رسائل ملتهبة، وحرائق مفتعلة، لتعزيز أوراق محور الممانعة تجاه دول الغرب ولعقد صفقات توزيع النفوذ والمصالح في المجال الاقليمي والعربي.
كان المنافقون يستثمرون، مكاسب لانفسهم، بادعاء المطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني وكان الحمقى ممن آمنوا بهم يهدرون دماء الصادقين والباذلين لارواحهم من الشعوب، من اجل نصر محظور، لا تتيحه موازين القوى الدولية ولا يقوى على تبنيه
النظام الرسمي العربي، الذي تنصل من مسؤولياته تجاه القضية العربية المركزية، ليحصر الصراع في نطاق اسرائيلي فلسطيني محدود.
ما زال العقل العربي واللبناني، متأرجحا وتائها بين القبول بالمتاح من اجل تحقيق التقدم والانتاجية، وبين الاصرار على الحرب املا بنصر تحظره موازين القوى، ولذلك، مازلنا نعاود المحاولة من اجل تحرير مكرر لارض كنا قد حررناها سابقا في لبنان وفلسطين، وما زلنا نعاود بناء بيوتنا المهدمة مرة رابعة، لكننا لن نتعب من أن نجدد انتظاراتنا الممنوعة مرارا وتكرارا، في تعميم ثقافة تقوم على العقلانية ونبذ الاساطير، وعلى إنزال السياسة من مرتبة القداسة الى مساحات النقد والتصويب، وفي تبني خيارات تتيحها الوقائع والحقائق وليس الخرافات، وفي بناء دولة لبنانية عمادها الدستور وسيادة القانون والجدارة و انتظام المؤسسات.
المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها