المصدر: صوت لبنان
العقل الجمعي لدى الطوائف وبناء الدولة
ظهر مؤخراً تأثير العقل الجمعي للطوائف في تشكيل الديناميكيات السياسية والاجتماعية، بمناسبة انتخاب رئيسي الجمهورية والحكومة. فالطائفية السياسية ترسخت في الوعي الجمعي، في الممارسة السياسية للنخب اللبنانية. ما أدى إلى تعزيز الانقسامات الطائفية وتأثيرها على صنع القرار.
هذه الطائفية لعبت دوراً اساسيا في حماية السياسيين الفاسدين، حيث تُستخدم الانتماءات الطائفية كوسيلة لحماية المصالح الشخصية وتعزيز المحسوبية. هذا التداخل بين الطائفية والفساد أدى إلى تعميق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد.
ان تداخل المصالح الطائفية مع الفساد، أدّى الى تعميق الازمات، مما يشكل تحديات كبيرة في تحقيق الإصلاح والتغيير.
تعكس هذه الديناميكيات تعقيد العقل الجمعي في لبنان. فالمحاصصة الطائفية في المناصب الحكومية أدت إلى توزيع الموارد بناءً على الانتماءات الطائفية، مما سمح للنخب السياسية بتحويل نفوذها إلى امتيازات اقتصادية على حساب المصلحة العامة.
يمكن القول إذن إن العقل الجمعي للطوائف اللبنانية، المتأثر بالانتماءات الطائفية والمصالح المرتبطة بها، قد ساهم في تعزيز الفساد وتفاقم الأزمة الحالية.
وهذا التفاعل المعقد بين الطائفية والفساد يتطلب إصلاحات جذرية تتجاوز المحاصصة الطائفية وتعزز مفهوم المواطنة والشفافية في إدارة الدولة.
فالطائفية لم تكن فقط أداة تعبئة اجتماعية، بل أصبحت أيضًا آلية لتوزيع السلطة والمحاصصة. مما عزز بدوره الفساد عبر حماية الزعامات السياسية.
ونتيجة لذلك، نجد أن كل طائفة طورت نموذجًا مختلفًا من العلاقة مع السلطة والفساد، والقمع.
كيف ترتبط الديناميكيات مع الديناميات الفكرية لكل طائفة؟
المسيحيون
على مستوى الفكر السياسي، يُفترض أن المسيحيين يميلون إلى العدالة، المحاسبة، ورفض الفساد من منطلق التقاليد الفكرية التي تركز على المؤسسات والحقوق الفردية.
لكن، في الواقع، نرى أن قياداتهم غطت على سلاح حزب الله مقابل مكاسب سلطوية، ما جعل جمهورهم عالقًا بين خطاب يطالب بالمحاسبة وبين الممارسة الفعلية التي تتماشى مع منظومة الفساد. خلق هذا تناقضًا في الوعي الجمعي المسيحي: بين السعي للعدالة أو الخضوع لحسابات واقعية تفرض عليهم تبرير تحالفاتهم مع الفساد.
الشيعة
الوعي الجمعي الشيعي تاريخيًا يرتكز على ثنائية الخضوع والتمرد، أي القبول بالواقع حتى نقطة معينة، ثم الثورة عليه عند الإحساس بالخطر الوجودي.
لكن مع صعود حزب الله، تحوّل هذا الوعي إلى حالة دائمة من “التعبئة للحماية”، حيث رُبط أمن الطائفة بوجود الحزب، ما جعل أي نقد داخلي يُفسَّر كخيانة، وخلق بيئة طاردة للمحاسبة الداخلية.
بعد الحرب الأخيرة، برزت حالة خوف حقيقية لدى الشيعة نتيجة تعرضهم للخطر أكثر من غيرهم، مما قد يؤدي إما إلى إعادة إنتاج الخضوع، أو بداية تصدّع داخلي قد يتطور على المدى الطويل.
السنة
الوعي الجمعي السني كان قائمًا على الثنائية بين الشرعية والفوضى، أدى الى البحث عن قيادة مركزية توفر الاستقرار.
بعد اغتيال رفيق الحريري وانهيار تيار المستقبل، دخلوا في حالة من الفراغ القيادي، مما جعل الوعي الجمعي متذبذبًا بين قبول الواقع القائم وبين البحث عن بديل يعيد لهم التوازن السياسي.
في ظل ضعف القيادات السنية، أصبح الجمهور أكثر عرضة للوقوع في حالة “الضياع” أو التبعية لمشاريع إقليمية بديلة.
الدروز
تاريخيًا، كان الوعي الجمعي الدرزي قائمًا على الحفاظ على خصوصية الجماعة، مقابل التكيف مع التغيرات السياسية للحفاظ على البقاء.
هذا التكيف جعلهم أكثر براغماتية في تعاملهم مع مختلف القوى، لكن أيضًا أكثر عرضة لاتهامات الفساد والمحسوبية بسبب ولاءاتهم المتغيرة.
في ظل الأزمة الحالية، يستمر الدروز في لعب دور “الحلقة الوسطى”، مما يعزز حالة الترقب لديهم دون تبنّي موقف جذري تجاه أي من الأطراف الكبرى.
ديناميات
إن تفاعل الفساد في لبنان ليس مجرد نتيجة لغياب الحوكمة، بل هو جزء من آلية السيطرة داخل كل طائفة:
عند المسيحيين، يُستخدم للحفاظ على النفوذ السياسي رغم خطاب المحاسبة.
عند الشيعة، يُستخدم لضمان الولاء للحزب تحت شعار “الصمود في وجه المؤامرات”.
عند السنة، الفساد جزء من تراجع القيادة وانعدام البدائل القوية.
عند الدروز، هو وسيلة للتكيف مع موازين القوى المتغيرة.
هل هناك مجال لتغيير هذه المنظومة؟
إذا لم يحدث تحوّل في الوعي الجمعي لكل طائفة، فإن الفساد والطائفية سيستمران في التداخل. أي تغيير حقيقي يتطلب:
كسر الخوف داخل الطائفة الشيعية، ليصبح النقاش الداخلي حول دور الحزب ممكنًا.
إعادة بناء قيادة سنية قادرة على تقديم مشروع جامع.
التخلص من ازدواجية الخطاب عند المسيحيين، بحيث يكون هناك التزام حقيقي بالمحاسبة لا مجرد شعارات.
تخليص الدروز من فكرة أنهم دائمًا بحاجة إلى اللعب على جميع الحبال.
هذا ما قد يفسّر كيف تضافرت العوامل لإنتاج الأزمة، وكيف يمكن استشراف مخرج منها إذا تغيرت إحدى هذه الديناميكيات.
بناء على ذلك، يستحيل بناء دولة المواطنة على أساس العقل الجمعي المتأثر بأحداث الماضي وتراكماته، رغم دعوات البعض للتعايش معه وبناء ديمقراطية في ظله.
ان الخروج من هذه الدوامة يتطلب:
خلق مساحات حوار بين الطوائف للعثور على قيم مشتركة (مثل العدالة والكرامة بدلاً من الطائفية).
كسر العجز الاجتماعي عبر نشر ثقافة المواطنة بدل الطائفة.
تحفيز التفكير النقدي عبر إعلام غير خاضع للطوائف.
المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها