المصدر: صوت لبنان
أنا حزين
بعد إنقطاع عدة سنوات عاودت وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى إلى الإعلان عن مباريات لتعيين قضاة متدرجين.
كان ذلك سنة 1972. وفي آذار 1973 أي منذ ثمانية وأربعين سنة صدر مرسوم تعيين 30 قاضياً متدرجاً إلتحقوا بمعهد الدروس القضائية لمدة ثلاث سنوات.
القضاء في تلك الفترة كانت له رهبة توازي أو تزيد عن الرهبة التي يشعرها الداخل إلى الدير أو الخلوة أو المعبد.
الرهبة من القضاة الكبار الذين أثبتوا بتصرفهم الأخلاقي وتمايزهم الفكري إستحقاقهم الإحترام على مستواهم الشخصي والمهني.
القضاء كان في تلك الفترة حافلاً بالمعلمين الكبار الذين رعوا الداخلين رعاية الأب الصالح الذي يتطلع لصلاح بنيه وتوجيههم التوجيه الشخصي والعلمي والأهم الأخلاقي والسلوكي الذي يجعلهم طلاب علم ومعرفة وليس طلاب وجاهة ومراكز نفوذ.
كان الرئيس الأول إميل أبو خير رحمه الله يأتي إلى مكتبه باكراً يقود سيارته البيجو القديمة بنفسه يحضر إلى مكتبه كمن يدخل كنيسة أو مسجداً أو خلوة، ويتصرَّف بتواضع جم ويفتح مكتبه لتلقي المراجعات ويراقب عمل الدوائر ويعمل على تسريع إصدار الأحكام.
كانت رهبة الرؤساء تجعل من قصر العدل مشكى ضيم المظلوم وموئلاً لطالبي الحاجة. وهم أي الرؤساء بتصرّفهم يلزمون زملاءهم والمتقاضين والمحامين أن يسلكوا سلوكاً مهنياً بحيث لا يُسمَع صوت تعلو نبرته ولا ضجيج يصدح في الأرجاء.
كان التفتيش القضائي الذي رأسه القاضي الكبير عبد الباسط غندور رحمه الله يضبط أي إرتكاب أو إنحراف بالتصرف والسلوك أو في معالجة الملفات أو تأخرها. لم يكن مسموحاً لدخول العسكر إلى أروقة قصر العدل بل كان قليل من الدرك يرابط على الأبواب كما لم يكن من العادة رؤية قاضٍ برفقته مرافق أو سائق أو حتى سيارة تلفت النظر. كان الرئيس عاطف النقيب رحمه الله لا ينام عشية صدور قرار عن محكمته نتيجة القلق العلمي ألاّ يكون القرار عادلاً أو ألا يكون مسنداً أو معللاً لتحقيق هذه العدالة.
كان التفتيش يلحظ أي مخالفة من قبل أي قاضي في أي تعاطي أو تواصل مع أهل السياسة ولم يكن من الممكن لقاضي مراجعة زعيم أو نائب أو وزير للحصول على مركز. كانت رقابة التفتيش تتابع ما يكتب في الصحف عن القضاة والقضاء وكانت الصحافة مزدهرة في ذلك الحين وتتحسب عن ذكر أي إسم لقاضي كما لم يكن مسموحاً لأي منهم التصريح دون أن يكون حائزاً على إذن من التفتيش القضائي وبمعرفته وموافقته حتى نشر أي مقالة أو أي خبر على قلة أهميته كان ذلك ممنوعاً ومرصوداً.
عددتُ ثلاثة نماذج من القضاة الكبار دون الإنتقاص من العشرات غيرهم. إلا أن منطق هذه العجالة لا يسمح بتعدادهم جميعاً وهم كثر ممن عرفناهم.
هذه السلطة التي كانت خاضعة بكلّيتها لأحكام الدستور والقانون والنظام. ولكن كل هذه المعايير لم تكن هي التي تحكم عمل القضاة فحسب بل أخلاقياتهم وتعلقهم بالمعايير الدولتية التي تعلو على ما عداها . أما المخالفات فلم تكن إلا بأعداد قليلة ناتجة عن قلة معرفة أو شطح عارض يلقى المخالف جزاءه من الداخل. ولا أحد يسمع عن ذلك.
لذلك كانت السلطات الأخرى تحترم القضاء لأن القضاء كان يحترم نفسه والقضاة كانوا أشبه برهبان نذروا أنفسهم لتحقيق العدالة وإعطاء الحق لصاحبه وحماية حرية وملكية المواطنين على قدم المساواة ولا شفاعة.
في هذا الجو القضائي تربى العديد من القضاة ونحن منهم وهذا لا يعني أنَّ القضاء اليوم لا يحفل بمثلهم ولكن صوتهم خافِت أمام فجور السياسة والعبث بالدولة كياناً وعيشاً مشتركاً ومؤسسات ودستوراً وقوانين.
قضاة الأمس أصحاب عفة ونزاهة ومناقبية ترقى إلى درجة القداسة كثيرٌ من قضاة اليوم ونادي القضاة هم هكذا ولكن أينهم لا يرفعون الصوت لكي يكف الحكام والسياسيون والعسكر يدهم عن التدخل في القضاء. إنه لمشهد حزين العراضة التلفزيونية التي تستمر فصولاً ! مناقبية القاضي تبرز في التزامه قرار مؤسسته الام وهي مجلس القضاء الأعلى الذي حسم الأمر وعلى الجميع الانصياع خصوصاً وأن رئيسه ينتمي إلى الكبار.
فأين تلك الأيام مما نراه اليوم؟
أنا حزين
المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها