المصدر: المدن
هجرة الشباب اللبناني: فجوة سكانية تسدّها ولادات النازحين السوريين
تتراجع فرص الشباب اللبناني في إيجاد الوظائف الملائمة في ظل استمرار الأزمة الاقتصادية. ورغم استقرار سعر صرف الدولار، وتحوُّل معظم رواتب القطاع الخاص إلى الدولار، إلاّ أن ذلك لم يمنع التأثيرات السلبية لارتفاع معدّل البطالة خلال السنوات الأربع من عمر الأزمة. وهذه البطالة، إلى جانب المخاطر السياسية والأمنية، تلعب دوراً حاسماً في دفع الشباب نحو الهجرة. الأمر الذي يجرّ معه تداعيات سلبية أخرى، منها على سبيل المثال، تحوُّل المجتمع اللبناني إلى مجتمع هَرِم يحتاج إلى إعالات اجتماعية، فضلاً عن مخاطر تراجع الولادات اللبنانية.
هذه الفجوة التي تشير الأرقام المتوفِّرة إلى اتّساعها في حال استمرار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية على ما هي عليه، تحتاج مَن يسدّها. وتتّجه الأنظار راهناً إلى اللاجئين السوريين.
معدّلات الهجرة والمجتمع الهرِم
فشلت محاولات السلطة في الحفاظ على استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية، بين العامين 2018 و2019، إذ عجزت عن القيام بالإصلاحات التي طلبها المجتمع الدولي في مؤتمر سيدر في العام 2018، وتالياً لم تستفد من نحو 11 مليار دولار رُصِدَت للبنان على شكل قروض. وحينها، كان التفاؤل في أوجِه، إذ وَعَدَ رئيس الحكومة يومها، سعد الحريري، بتوفير “أكثر من 900 ألف وظيفة”.
هذا الفشل ترافق مع توثيق بالأرقام لحجم المشكلة التي يعانيها سوق العمل، فارتفع معدّل البطالة من نحو 11.4 بالمئة بين العامين 2018 و2019، حسب أرقام منظمة العمل الدولية للعام 2022، إلى ما يزيد عن 33 بالمئة وفق تقديرات “الدولية للمعلومات”. وعلى مستوى الشباب، فإن البطالة هي العامل الداعم لخيار الهجرة. خصوصاً وأن معدّل البطالة بين الشباب لا يزيد اليوم عن 47.8 بالمئة.
وبما أن الهجرة هي الخيار الأنسب للشباب، خَرَجَ من لبنان بين العامين 2017 و2023 نحو 425 ألف شاب، بينهم 180 ألفاً هاجروا في العام 2023. وتثير معدّلات الهجرة المرتفعة، الكثير من المخاوف الاجتماعية. إذ أن 70 بالمئة من اللبنانيين المهاجرين تتراوح أعمارهم بين 20 و40 عاماً، يساعد هؤلاء في تدفق الدولارات إلى لبنان عبر زيادة معدّلات التحويلات، ومعظم تلك الأموال تذهب لمساعدة عائلات المهاجرين على مواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية. لكن الإيجابيات الحالية لهجرة الشباب لن تمحو السلبيات التي لا مفرَّ منها. فبعد 10 سنوات سيصبح أكثر من 60 بالمئة من اللبنانيين المقيمين، شعبٌ متقدّم بالعمر. ويعزّز هذا التقدّم، تراجع معدّلات الولادات في الأسر اللبنانية. إذ أن معدّل زيادة الولادات حالياً هو 10 بالألف سنوياً.
الولادات السورية جاهزة
يجد اللبنانيون في اللاجئين السوريين منفساً لتخفيف احتقانهم جرّاء الضغط الاقتصادي والاجتماعي المتزايد. وتصل ردود الفعل أحياناً إلى مستويات غير مقبولة من العنصرية والعنف تجاه اللاجئين الذين يُنظَر إليهم بوصفهم المنافس الأبرز لليد العاملة اللبنانية، وفي ذلك شيء كبير من الحقيقة، خصوصاً وأن أعداداً كبيرة من السوريين تتدفّق عبر الحدود، لأسباب اقتصادية لا علاقة لها بالمخاطر الأمنية في سوريا.
فموجات الدخول من سوريا إلى لبنان، وتحديداً عن طريق المعابر غير الشرعية، يرفع مستويات التحدّي إلى ما يتخطّى المنافسة في سوق العمل وتجاوُز أعداد السوريين لأعداد اليد العاملة اللبنانية، إذ بدأ التساؤل بشكل جدّي حول التأثيرات الديموغرافية التي يحملها تزايد أعداد السوريين في لبنان، والذي من المنتظر أن يسدّ أي فراغ يحصل، سواء في أعداد الولادات أو تناقص اليد العاملة اللبنانية الشابة بفعل الهجرة. علماً أن معدّل زيادة ولادات اللاجئين السوريين هي 30 بالألف سنوياً، ما يوازي 3 أضعاف المعدّل اللبناني.
وتساعد بعض الأرقام في رسم الصورة المستقبلية لواقع سوق العمل اللبناني وشكل المجتمع. ووفق ما أورده الخبير الاقتصادي ألبير كوستانيان خلال مؤتمر “اللجوء السوري في لبنان” الذي عقد يوم الجمعة 17 أيار، فإن الأرقام تشير إلى أنه بعد 15 عاماً، سيكون نصف المقيمين في لبنان هم من غير اللبنانيين. وفي العام 2050 لن يكون هناك قوى عاملة شابة قادرة على العمل لإعالة كبار السن، وفي المقابل، هناك تواجد كبير للشباب السوري، سيّما وأن 40 بالمئة من الولادات في لبنان، هم من السوريين. كما أن السوريين اليوم يشكّلون 25 بالمئة من عدد المقيمين في لبنان، ومن الطبيعي أن يبحث هؤلاء عن مسارات لضمان بقائهم، تظهر سريعاً من خلال الذوبان في سوق العمل اللبناني.
وليس السوريون هم المسؤولون عن الأزمة الاقتصادية في لبنان، وليسوا هم من رَفَعَ معدّلات هجرة الشباب، وإنما هم استفادوا من الفراغات التي يحدثها غياب تعامل الدولة اللبنانية مع أزماتها بالشكل الصحيح. فالحدود بين سوريا ولبنان بلا رقابة فعلية، وذلك يشجّع على زيادة أعداد السوريين في لبنان. ولأن الأوضاع الاقتصادية والأمنية في سوريا متدهورة، لا يزال لبنان جاذباً للسوريين رغم أزماته. علماً أن نحو 90 بالمئة من السوريين المتواجدين في لبنان “يعيشون تحت خط الفقر المدقع”، وفق كوستانيان الذي يعتبر هذا الرقم “مهدِّداً للأمن الاجتماعي اللبناني”.
لا حلول سريعة لهذا الملف،. بل إن عدم الاكتراث الرسمي من الجانبين اللبناني والسوري، إلى جانب التعامل السطحي من قِبَل المجتمع الدولي، يعقِّد الأمور ويفتح المجال أمام زيادة أعداد السوريين إلى ما يفوق أعداد اللبنانيين المقيمين. لذلك، فإن بعض الحلول المطروحة من قِبَل الجهات التي تتابع ملف اللجوء السوري، تقترح اجتهاد السلطات اللبنانية بشكل جاد، لدفع أعداد كبيرة من السوريين لمغادرة لبنان، إما العودة إلى سوريا بعد ضمان المجتمع الدولي وجود أماكن آمنة يمكن الاستثمار في إعادة إعمارها، وإما ترحيل جزء إلى أوروبا وأميركا، والأولوية للخيار الأول لما فيه من مصلحة لسوريا، عبر إعادة التوازن الديموغرافي الذي يحاول النظام السوري تغييره من خلال عمليات عمليات تفريغ لمناطق معينة من سكانها، على أساس مذهبي، والكثير من السكان الذين أُبعِدوا عن مناطقهم، أتوا إلى لبنان.
هي معضلة متشابكة لا يبدأ فكّ تعقيداتها سوى بمبادرة واضحة من الدولة اللبنانية، تسير بعدّة اتجاهات بالتوازي وتنطلق من تطبيق القوانين، وعلى رأسها قوانين العمل والدخول إلى لبنان، وتترافق مع حوار على المستوى العربي والدولي للتخفيف من كاهل لبنان وفتح منافذ للسوريين نحو بلدهم، ودعم صمودهم داخل سوريا بدءاً بتوسيع قاعدة مشاريع إعادة الإعمار.
المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها