المصدر: صوت لبنان
كفانا حكماً مركزياً
كفانا حكماً مركزياً، لأنه ما أن وُلّي المسيحيون الموارنة إدارة لبنان بدستور 1926 حتى نازعهم المسلمون السنّة صلاحياتهم الدستورية. فكان من نتيجة تلك المنازعة أن تمّ التوافق على الميثاق الوطني اللبناني سنة 1943. غير أن هذه المنازعة بقيت ملازمة للحياة العامة في لبنان حتى تمّ في ظلها احتضان اللاجئين الفلسطينيين سنة 1948.
ثمّ عادت وأخذت حدّيتها من جديد من خلال تمدّد المشروع القومي العربي (الإسلامي) الذي عُرِف بالتيار الناصري، حتى إندلعت إثره ثورة 1958 التي إنتهت بالحكم الشهابي الذي تميّز بمزيد من المشاركة السنيّة في السلطة الإجرائية.
ثمّ عادت السنيّة السياسية وإنتفضت تضامناً مع منظمة التحرير الفلسطينية، حتى تمّ توقيع إتفاق القاهرة سنة 1969، وتعطيل محاولة كبح تفلّت السلاح الفلسطيني في الداخل اللبناني بواسطة الجيش سنة 1973.
غير أنه عندما أضحت المنظمات الفلسطينية المقيمة على الأراضي اللبنانية جيش السنّة في لبنان، كان لا بدّ أن تندلع الحرب الأهلية في ما بينهم والأحزاب اليمينية المسيحية سنة 1975، على وقع مشروعهم الرامي الى قلب نظام الحكم في لبنان وتثبيت موازين طائفية جديدة على حساب المسيحيين، الى حدّ السعي لفرض الغاء الطائفية السياسية عليهم.
تلك الحرب التي لم تحط أوزارها الاّ سنة 1989، وذلك بعد أن تمّ إقرار تعديلات جوهرية على دستور 1926، التي عزّزت مكانة ودور الطائفة السنيّة في السلطة الاجرائية ومنحت المسلمين عموماً المناصفة التامة في تكوين السلطات الدستورية.
كما وإن الوصاية السورية التي إستجرّها اللبنانيون على نفسهم، ولو بمباركة دولية، سنة 1990، نتجة ثلاث حروب عبثيّة خاضتها الحكومة الانتقالية المبتورة للعماد ميشال عون، كان شأنها أيضاً إتمام تعديلات إضافية على الدستور الجديد، وذلك من خلال الممارسات والأعراف والمصطلحات التي إستحدثتها تلك الوصاية حتى تُعزِّز قبضتها على الداخل اللبناني.
علماً أن نشأة حزب الله سنة 1982 وما يمثّله من عقيدة سياسية ومشروع إقليمي وارتباط عضوي بالجمهورية الإسلامية الإيرانية قد أتاح له التوسّع والتمدّد والإنخراط تدريجاً في السلطات الدستورية والمؤسسات العامة، ما جعله على تماس واحتكاك، ولو مضبوطين، مع بقية المكوّنات اللبنانية الرئيسية من سنّة ومسيحيين، حتى خروج القوات العربية السورية من الأراضي اللبنانية سنة 2005.
بحيث أخذ، بعد هذا التاريخ، بتوسيع رقعة نفوذه وسطوته على سائر اللبنانيين، مدعوماً خارجياً بتحالفه الاستراتيجي مع الجمهورية الاسلامية الإيرانية، ومغطىً داخلياً بتحالفه المفصلي مع التيار الوطني الحر بإتفاق مار ميخائيل سنة 2006، ما أدخل لبنان في حقبة الشيعية السياسية، التي ترسّخت بتحرير الجنوب سنة 2000، وتعزّزت بحرب تموز المفتعلة منه سنة 2006، حتى إمتصّ بها نقمة اللبنانيين باتهامهم له باغتيال الرئيس رفيق الحريرى. وذلك حتى بلغت تلك الشيعيّة السياسية أوجّها بإعلانها منفردة مؤازرة حماس في غزة في حربها ضد العدو الإسرائيلي منذ 8 تشرين الأول 2023، وحتى يومنا هذا.
فكان من نتيجة تلك المؤازرة أن وسّعت إسرائيل نطاق هذه الحرب، لاعتبارها وجوديّة نسبةً اليها، حتى تشمل حزب الله بما في ذلك مناطق تواجده العسكري والبنيوي فيها. الأمر الذي أدى الى تدمير هائل في مرتكزات وهيكلية البنيان اللبناني المجتمعي والمؤسساتي في القطاعين العام والخاص، على أكبر قدر وأوسع نطاق.
حتى بات يصحّ القول أن الحكم المركزي في لبنان لم يعد صالحاً لإشادة أية دولة من خلاله، وأنه بات يقتضي فضّ الشراكة الوطنية المعقودة، كما الميثاق الوطني المتوافق عليه، وذلك حتى يتمّ التوافق مجدّداً على “نظام لامركزي موسّع” يراعي التعدديّة في لبنان ويوقف التصادم بين أبناء الأمة، ويُثبّت الحقوق السياسية للمجتمعات، على نحو يسقط توالي الحقبات السياسية الطائفية فيه، فتعرف شعوبها الأمان والإستقرار والفرادة في التنوّع والتكامل في التواصل.
المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها